الجمعة، 21 فبراير 2025

08:43 م

«عثمان أحمد عثمان» من المقاولات إلى بناء السد العالي قصة نجاح تكتب بماء الذهب

الأربعاء، 05 فبراير 2025 03:53 م

عثمان أحمد عثمان

عثمان أحمد عثمان

كريم قنديل

عثمان أحمد عثمان، أحد أعظم رجال الأعمال في تاريخ مصر، يُعد رمزًا للإصرار والريادة في مجال المقاولات. من مسقط رأسه في الإسماعيلية، بدأ في بناء إمبراطورية عمله الخاصة في مجال الهندسة والمقاولات، ليترك بصمة تاريخية في مشروعات ضخمة أهمها السد العالي، الذي أصبح رمزًا للقوة الوطنية المصرية. 

هذا الرجل الذي بدأ من لا شيء، استطاع أن ينقل "المقاولون العرب" إلى العالمية، محدثًا تغييرًا جوهريًا في القطاع بأكمله.

رجل اللأعمال عثمان أحمد عثمان

عثمان أحمد عثمان هو واحد من أبرز الشخصيات التي شكلت تاريخ مصر الحديث، خاصة في مجال البناء والتعمير، اسمه ارتبط بمشاريع ضخمة جعلت منه علامة فارقة في قطاع المقاولات، من أبرزها السد العالي الذي يُعد رمزًا للقوة الوطنية والإرادة المصرية. 

ولم يكن عثمان مجرد رجل أعمال، بل كان مؤسسًا لرؤية جديدة في عالم البناء والمقاولات، قاد بها شركة "المقاولون العرب" لتصبح واحدة من أكبر شركات المقاولات في المنطقة العربية والعالم.

النشأة والتعليم

وُلد عثمان أحمد عثمان في عام 1917 في مدينة الإسماعيلية في مصر، في أسرة بسيطة، حيث نشأ في ظروف صعبة بعد وفاة والده وهو في سن صغيرة. هذا التحدي المبكر دفعه للبحث عن طرق مختلفة للنجاح. 

وبدأ عثمان دراسته في المدارس المحلية، وكان دائمًا متفوقًا، فتمكن من الالتحاق بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة في عام 1940.

في بداية حياته العملية، كان عثمان لا يملك ثروات أو علاقات يمكن أن تدعمه في تحقيق حلمه الكبير، لكن كانت لديه رؤية واضحة وطموح لا يحده شيء، قرر أن يتبع طريقًا صعبًا ولكنه مثمر، حيث بدأ بالبحث عن فرص في مجال البناء والمقاولات.

البداية مع المقاولات وتأسيس "المقاولون العرب"

بعد تخرجه، عمل عثمان في مجال الهندسة والمقاولات لأحد الشركات المحلية. إلا أن طموحاته لم تقف عند هذا الحد، حيث بدأ يفكر في تأسيس شركته الخاصة. في عام 1955، أسس شركة "المقاولون العرب"، والتي بدأت كشركة صغيرة، ولكن سرعان ما أثبتت نفسها في سوق المقاولات المصري، متفوقة على الكثير من الشركات الأجنبية التي كانت تهيمن على هذا المجال في ذلك الوقت.

كان تأسيس الشركة في هذه الفترة يمثل تحديًا كبيرًا، حيث كانت الشركات الأجنبية هي المهيمنة في هذا المجال، وكان السوق المصري يعتمد بشكل كبير على الاستعانة بالشركات الأجنبية لتنفيذ المشروعات الكبرى. ومع ذلك، تمكّن عثمان من تحويل شركته الصغيرة إلى واحدة من أكبر شركات المقاولات في العالم العربي.

عثمان أحمد عثمان في ريعان شبابه

المشاريع الكبرى: السد العالي وبناء الأمل

تُعدّ تجربة "المقاولون العرب" في السد العالي من أبرز محطات حياة عثمان أحمد عثمان. في عام 1960، تم الإعلان عن مشروع بناء السد العالي في أسوان، وهو واحد من أكبر المشاريع الهندسية التي شهدتها مصر في القرن العشرين. رغم التحديات السياسية والاقتصادية التي كانت تواجه مصر في تلك الفترة، كان السد العالي يمثل مشروعًا مصيريًا للأمة المصرية. وكان من الضروري أن يتم بناء السد بكفاءة ودقة عالية.

كانت الشركة التي أسسها عثمان أحمد عثمان من بين الشركات القليلة التي تقدمت لتنفيذ هذا المشروع، وتمكنت من الفوز بالمناقصة. لقد أظهر عثمان في هذه الفترة قدرة استثنائية على إقناع الحكومة المصرية بقدرة شركته على إنجاز هذا المشروع الضخم رغم المنافسة الشديدة من شركات أخرى كانت تمتلك خبرات أوسع وأموالًا أكثر. كان عثمان يعتقد أن هذا المشروع يمثل فرصة تاريخية لشركته وللشعب المصري.

بدأت "المقاولون العرب" العمل في المشروع في عام 1964، وكان يتم تنفيذ العمل تحت ظروف صعبة جدًا، حيث كانت الإمكانيات المحدودة والمخاطر عالية. ولكن بفضل القيادة الحكيمة من عثمان وفريق العمل المدرب، تمكنت الشركة من إنجاز أجزاء كبيرة من المشروع، ليصبح السد العالي بعد ذلك رمزًا للقوة والإرادة الوطنية.

فلسفة الإدارة ونجاح شركة "المقاولون العرب"

لم يكن نجاح عثمان أحمد عثمان في إدارة "المقاولون العرب" مجرد نتيجة للفرص المتاحة، بل كان نتاجًا لفلسفة إدارية فريدة من نوعها. كانت فلسفته تتمحور حول مجموعة من المبادئ التي جعلت شركته تتفوق على العديد من الشركات الكبرى في السوق.

  1. التركيز على الكفاءة والمهارة: عثمان كان يؤمن بأن نجاح أي مشروع يعتمد في المقام الأول على الكفاءة الفنية والمهارة العالية. ولذلك، كان يختار فريقه بعناية شديدة، حيث كان يضع المهارة والكفاءة في المقام الأول، بغض النظر عن خلفيات الموظفين أو مناصبهم السياسية. كانت هذه سياسة واضحة في "المقاولون العرب"، حيث تم انتقاء أفضل المهندسين والفنيين من أجل ضمان تنفيذ المشروعات بجودة عالية.
  2. الاهتمام بتطوير الموظفين: عُرف عن عثمان اهتمامه البالغ برفاهية موظفيه. كان يولي اهتمامًا خاصًا بتوفير بيئة عمل ملائمة، حيث تم توفير العديد من المزايا الاجتماعية والصحية لهم. كان يعتقد أن الموظف السعيد هو الموظف المنتج، وكان يحرص على توفير الرعاية الطبية والتأمين الاجتماعي لجميع العاملين في شركته. كما عمل على تطوير مهاراتهم من خلال التدريب المستمر، مما ساعد في بناء فريق عمل متميز ومستمر في الابتكار.
  3. الاهتمام بالجودة والابتكار: لم يكن عثمان مجرد مقاول يهمه الربح السريع، بل كان يضع الجودة والابتكار في مقدمة أولوياته. كانت شركة "المقاولون العرب" تعتمد في تنفيذ مشروعاتها على أحدث التكنولوجيا والأدوات الهندسية المتاحة. كما كان يشجع على البحث المستمر عن طرق جديدة لتحسين الأداء وتقليل التكاليف، وهو ما ساعد في تمكين الشركة من الحفاظ على قدرتها التنافسية.
  4. الاستقلالية والعمل الجماعي: كان عثمان يؤمن بشدة بأهمية الاستقلالية والعمل الجماعي في الوقت نفسه. رغم أن شركته كانت تملك القدرة على تنفيذ المشاريع الكبرى، إلا أنه كان يؤمن بأن كل مشروع يحتاج إلى تعاون وثيق بين جميع الفرق الفنية والإدارية. كان يحث موظفيه على العمل بروح الفريق، وتحقيق الأهداف المشتركة.
  5. الاستثمار في التوسع الدولي: منذ البداية، كانت "المقاولون العرب" تسعى للتوسع خارج حدود مصر، وهو ما تحقق بشكل ملحوظ في السبعينيات. توسعت الشركة في العديد من دول الخليج مثل السعودية والكويت والإمارات، بالإضافة إلى مشاريع كبيرة في العراق وليبيا ولبنان. وكان عثمان دائمًا ما يطمح لتوسيع نطاق أعماله إلى أسواق جديدة.
شركة المقاولون العرب

التحديات السياسية والاقتصادية

خلال فترة السبعينات والثمانينات، شهدت مصر تحولات كبيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ومع بدء تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، ظهرت تحديات جديدة أمام الشركات الكبرى. إلا أن عثمان استطاع أن يتكيف مع هذه التغيرات بشكل مرن، وأثبت أن المقاولات يمكن أن تنجح في ظل هذه الظروف المتقلبة إذا كان هناك تخطيط محكم واستراتيجية مدروسة.

رجل الأعمال المصري وصاحب الرؤية الاقتصادية

نجاح عثمان لم يقتصر على مصر فقط، بل امتد إلى دول الخليج العربي حيث استفاد من الطفرة الهائلة في قطاع البناء بسبب الثروة النفطية. فقد نجح في تنفيذ مشاريع ضخمة في المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا والعراق والإمارات العربية المتحدة، محققاً بذلك ثروة كبيرة.

وفي عام 1956، عاد عثمان إلى مصر تزامنًا مع ثورة جمال عبد الناصر. في تلك الفترة، حصل على عقد قيمته 48 مليون دولار لبناء سد أسوان. وعلى الرغم من تباين سياسات عثمان الرأسمالية مع سياسة ناصر الاشتراكية، فقد تعاون الاثنان في مواجهة التحديات العسكرية، حيث شملت المشاريع المشتركة بناء المخابئ والمطارات وصوامع الصواريخ.

لكن في عام 1961، عندما أعلن ناصر تأميم شركة "المقاولون العرب"، كان أمام عثمان خياران: إما أن يظل خارج مصر ويواصل جمع ثروته، أو أن يعود إلى وطنه. اختار عثمان العودة إلى مصر، حيث تعهد في أول حديث إعلامي له بعد العودة أن الشركة ستستمر في العمل بكفاءة عالية، بغض النظر عن مالكيها، كما تبنى عثمان نظام حوافز الأجور داخل شركته، وهو ما كان غير قانوني في قطاع الدولة آنذاك، لكن بفضل نجاحه في مشروع سد أسوان، سمح له ناصر بمواصلة إدارة شركته وفقاً لهذا النظام، مع إصدار قانون يسمح لشركات القطاع العام بتحديد الأجور والحوافز إذا كانت قد نفذت جزءاً كبيراً من أعمالها في الخارج.

السادات وعلى يمينه حسني وعثمان أحمد عثمان

علاقة عثمان أحمد عثمان بالرئيس الراحل أنور السادات

كان عثمان أحمد عثمان من أبرز رجال الأعمال في مصر والمنطقة العربية، حيث اشتهر بدعمه القوي للرئيس أنور السادات وتوجهاته الاقتصادية التي أسهمت في تحويل نظام مصر الاقتصادي من الاشتراكية إلى الرأسمالية، مع التركيز على مبادئ السوق الحر، اعتبر عثمان أن سياسة الرئيس جمال عبد الناصر الاشتراكية كانت مجرد وسيلة لكسب تأييد الجماهير، لاسيما في ما يتعلق بتوظيف خريجي الجامعات في وظائف حكومية، وهو ما وصفه بأنه أسلوب غير علمي.

في كتابه، حذر عثمان خريجي الجامعات من التوجه نحو الوظائف الحكومية الافتراضية، مؤكداً أن الحكومة لن تكون قادرة على توفير هذا الكم الكبير من الوظائف، معتبراً أن القطاع الخاص هو الخيار الأفضل. كما أوضح أن أصحاب الأعمال الخاصة يسعون دائماً لتوسيع أعمالهم وزيادة أرباحهم، مما يتيح فرص عمل أكبر للشباب.

كان عثمان جزءًا من بعثة الرئيس السادات إلى الكيان الصهيوني عام 1977، حيث تحدث في الكنيست، وهو ما يعكس موقفه المؤيد لسياسات السادات. رحب عثمان بتولي السادات الحكم في مصر عام 1970، معبرًا عن استيائه من سياسات ناصر القمعية، التي كان يعتقد أن الشعب دفع ثمنها غاليًا من خلال القمع الداخلي والاحتلالات الأجنبية.

في حرب أكتوبر 1973، برز دور شركة "المقاولون العرب" التي شاركت في بناء العبارات التي عبرت بها القوات المصرية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، مما كان له دور محوري في دعم جهود مصر العسكرية.

الإرث والوفاة

توفي عثمان أحمد عثمان في 1 مايو 1999 بعد أن ترك وراءه إرثًا عظيمًا في مجال البناء والمقاولات. بعد وفاته، استمرت "المقاولون العرب" في قيادة صناعة المقاولات في العالم العربي، حيث استمرت في تنفيذ مشاريع ضخمة في العديد من البلدان. تظل فلسفته الإدارية جزءًا لا يتجزأ من نجاح الشركة، حيث يتم تعليمها للموظفين الجدد.

عثمان أحمد عثمان

وأخيرًا، عثمان أحمد عثمان ليس فقط مؤسسًا لشركة "المقاولون العرب"، بل هو رمز للريادة والإصرار في عالم الأعمال. استطاع أن يبني إمبراطورية من العدم بفضل عزيمته وفلسفته التي تعتمد على الكفاءة، الجودة، والابتكار. من خلال مشروعاته الكبرى، خاصة السد العالي، ترك عثمان بصمة لا تُنسى في تاريخ مصر والعالم العربي.

رحل عثمان أحمد عثمان في عام 1999، لكن إرثه ما زال حيًا في قطاع المقاولات المصري والعربي، من خلال تأسيسه لشركة "المقاولون العرب" وقيادته لمشروعات كبرى مثل السد العالي، أثبت أن العزيمة والتخطيط المدروس يمكن أن تتغلب على كافة التحديات. قصة عثمان هي قصة إصرار ورؤية طموحة، تركت بصمة كبيرة على تاريخ مصر المعاصر، وظلت "المقاولون العرب" تسير على دربه، مجسدة فلسفته في العمل والإدارة، في سعيها المستمر نحو النجاح والابتكار.

Short Url

search