التكنولوجيا النووية في الأغذية والزراعة.. حلول مبتكرة لتحقيق الأمن الغذائي حول العالم
السبت، 30 مارس 2024 11:00 م
الطاقة النووية
محمد أحمد طنطاوي
يتصور البعض أن دور الطاقة النووية يتوقف عند مجالات معينة، مثل إنتاج الكهرباء والطاقة النظيفة، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير، فقد أصبحت التكنولوجيا النووية تقدم حلولًا تنافسية فريدة من نوعها للمساعدة في مكافحة الجوع وسوء التغذية، وتحسين الاستدامة البيئية، وضمان سلامة الأغذية، لذلك تعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالاشتراك مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) على مساعدة الدول الأعضاء على استخدام هذه التكنولوجيات بأمان وعلى النحو المناسب.
ويعتبر تشعيع الأغذية أحد أهم التطبيقات التي تعتمد على التكنولوجيا النووية الحديثة، خاصة أنه نفس الفوائد التي تتحقَّق عند تسخين الأغذية أو تبريدها أو تجميدها أو معالجتها بالمواد الكيميائية، ولكن دون تغيير درجة حرارتها أو ترك مخلفات فيها، وتعمل هذه التقنية على مكافحة تلف الأغذية والكائنات الدقيقة المسببة للأمراض أو الآفات الحشرية الموجودة في الأغذية، دون تأثير يُذكر في المذاق أو الرائحة.
وتشير الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه بعد سنوات عديدة من إجراء البحوث وإرساء المعايير المحلية والدولية، صار هناك أكثر من 60 بلداً في مختلف أنحاء العالم لديها لوائح تسمح باستخدام التشعيع مع منتج واحد أو أكثر من منتجات الأغذية، ويعمل هذا التشعيع على تدمير البكتيريا المسبِّبة للأمراض، ويقلِّل من خطر الإصابة بالأمراض المنقولة عن طريق الأغذية، ويحافظ عليها "نظيفة" ويمنع تلفها، وهو ما يتيح الاحتفاظ بالأغذية لفترة أطول مع ضمان مستوى أعلى من السلامة والجودة في الوقت نفسه، ويُعدُّ التشعيع أيضاً أسلوباً ناجحا لمكافحة الآفات، حيث يكفل الأمن الصحي النباتي للمنتجات الطازجة المتداولة تجاريًّا، عن طريق منع نمو وتكاثر الحشرات وغيرها من الآفات.
والآفات الحشرية الطفيلية، مثل الأنواع الطفيلية من الذباب يمكن أن تهدد نظما بيئية بأسرها، وأن تشكِّل خطراً على إمكانية المحافظة على الحياة الحيوانية والتنوُّع البيئي في الأجل الطويل، أمَّا ذبابة الفاكهة والعثة، وذبابة تسي تسي، والدودة الحلزونية، فهي أمثلة لآفات حشرية أخرى تتسبَّب في إتلاف المحاصيل والثروة الحيوانية، ومن ثم تهدِّد سبل عيش المزارعين وتضرّ بالتجارة الدولية وتقوِّض الأمن الغذائي العالمي، ووفقاً للتقديرات الرسمية، فقد تسبَّبت الآفات في إتلاف ما يصل إلى 40٪ من المحاصيل على الصعيد العالمي، وأدَّت إلى خسائر قدرها 220 مليار دولار في عام 2021.
ويمكن استخدام الإشعاع للمساعدة على التحكُّم في انتشار الآفات أو السيطرة عليها – أو ما يُعرف بمكافحة الآفات – من خلال إتاحة وسيلة فعالة للوقاية من المخاطر التي تشكِّلها الحشرات على الصحة البشرية والحيوانية، وعلى النظم البيئية والأمن الغذائي (بما في ذلك إنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية)، وتشمل الأساليب المنطوية على استخدام الإشعاع في مكافحة الآفات تقنية الحشرة العقيمة والعقم الموروث والمكافحة البيولوجية، والحشرة العقيمة هي طريقة لمكافحة الآفات الحشرية تقوم على استخدام الإشعاعات المؤيِّنة لتعقيم أعداد كبيرة من الحشرات المنتجة في المختبرات، ثم يتم إطلاقها في المناطق التي تشهد تفشي الآفة الحشرية حتى تتزاوج مع الحشرات البرية الموجودة أصلا في تلك المناطق، ولأنَّ هذه الحشرات العقيمة عاجزة عن إنجاب أي ذرية، فإنَّ أعداد الحشرات تتناقص مع مرور الوقت.
أما تقنية العقم الموروث هي نوع من تقنية الحشرة العقيمة، يختلف قليلاً عن النوع التقليدي لأنَّه ينطوي على تربية ذكور الحشرات وتعقيمها تعقيماً غير تام، ثم إطلاقها في المنطقة المستهدفة للحد من قدرة الذكور البرية غير العقيمة على التزاوج، ورغم أنَّ ذكور الحشرات التي تُنتج وتُطلق في إطار هذه التقنية تتمتع بقدر من الخصوبة، فإنَّ كلَّ ذريتها تكون عقيمة تماماً، وتُستخدم هذه التقنية في حالة بعض أنواع الآفات، مثل العث، حين لا يمكن تعقيم الذكور تماماً إلا باستخدام جرعات عالية للغاية من الإشعاع، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إضعاف الحشرات والانتقاص من قدرتها على التنافس على التزاوج مع حشرات العث البرية، ولذلك، تُطبَّق تقنية العقم الموروث التي تنطوي على استخدام جرعات أدنى كثيراً وأقل إضعافاً لذكور الحشرات بحيث لا تحد من فرصها في التزاوج، لكنها تؤدي في الوقت نفسه إلى إصابة ذريتها بالعقم الموروث.
أما المكافحة البيولوجية هي أسلوب مكافحة يقوم على التربية المكثفة لكائنات معادية للآفات بطبيعتها ثم إطلاقها في البيئة لمكافحة تلك الآفات، مثل الحشرات المفترسة التي تتغذى على بيض الآفات ويرقاتها، أو أنواع الطفيليات التي تُعرف باسم أشباه الطفيليات، ويمكن أن يؤدي استخدام الإشعاع أيضاً إلى تحسين نتائج هذه الطريقة في المكافحة والتقليل من عدد القيود المرتبطة بها.
التكنولوجيا النووية لها دور فعال أيضاً في مواجهة الأمراض الحيوانية العابرة للحدود والأمراض التي تؤدي إلى موت الحيوانات وإضعافها، لذلك تُعدُّ التقنيات المناعية والجزيئية النووية وذات الصلة بالمجال النووي أدوات أساسية في التشخيص المبكر والسريع والدقيق لتلك الأمراض.
لا تزال أوبئة الأمراض حيوانية المصدر التي تفشَّت مؤخراً، مثل الإيبولا وإنفلونزا الطيور، تشكِّل تهديداً للصحة العامة، بجانب الأمراض الأخرى التي تؤدي إلى مقتل الحيوانات أو الاضطرار إلى إعدام أعداد هائلة منها عبر الحدود الجغرافية، بما يؤدى إلى خسارة ملايين الحيوانات وتكبُّد تكاليف اقتصادية ضخمة، مثل أمراض حمى الوادي المتصدع؛ وحمى الخنازير الأفريقية؛ وطاعون الحيوانات المجترة الصغيرة؛ وداء الحمى القلاعية، من بين أمراض أخرى.
وقد نجحت التطبيقات النووية في تخليص العالم من مرض الطاعون البقري في عام 2011، وكان من بين العناصر المهمة في هذا الإنجاز تطبيق تكنولوجيا قائمة على القياس المناعي - اختبار مصلي - على نطاق أفريقيا بأسرها، وهو ما أتاح منهاجاً لرصد برامج التطعيم الوطنية المنفَّذة ضمن إطار حملة البلدان الأفريقية لاستئصال الطاعون البقري ومن ثمَّ إنقاذ الحيوانات من المرض، وأسفر ذلك عن تحقيق المنطقة استفادة اقتصادية سنوية تُقدَّر بمبلغ 920 مليون دولار أمريكي.
ومثال عملي للتكنولوجيا النووية في مكافحة أمراض الحيوان فإن مناطق شمال الكاميرون في أفريقيا قد اجتاحها مرض فيروسي يهاجم المجترات الصغيرة، مثل الأغنام والماعز، عام 2019، وقد فقد على أثرة أغلب السكان المحليين جميع حيواناتهم، بسبب هذا المرض المعروف باسم طاعون المجترات الصغيرة (PPR، لكن الآن، أصبحت القصة من الماضي، بفضل حملة تطعيم واسعة النطاق في إطار البرنامج العالمي لاستئصال طاعون المجترات الصغيرة.
ويُعدُّ تحسين السلالات المحلية عن طريق الانتقاء الجيني عنصراً حاسماً في التصدي للتحدي المتمثِّل في توفير الإمدادات اللازمة لتلبية الطلب المتزايد على الأغذية ذات المصدر الحيواني، وهناك عدَّة تكنولوجيات نووية تدعم إجراءات الانتقاء الجيني من هذا القبيل، فالبيانات الجينومية تساعد على تحسين الاستيلاد، خاصة أن هناك صلة وثيقة بين تحسين الإنتاجية الحيوانية، والحاجة إلى المحافظة على التنوُّع الهائل في الموارد الوراثية الحيوانية، وكثيراً ما تتكيَّف الأنواع والسلالات المختلفة بطرق بالغة التميُّز مع الظروف البيئية القاسية، مثل الجفاف أو الرطوبة أو البرودة أو الحرارة.
كما يعد القياس المناعي الإشعاعي للهرمونات في الحليب والدم وغيرهما من سوائل الجسم باستخدام اليود 125 تقنيةً نوويةً ناضجةً وكثيرة الاستعمال يمكن تنفيذها بسهولة في مختبرات لامركزية، وتوفِّر هذه التقنية دعماً فريداً من نوعه فيما يتعلق بتحسين نتائج خدمات التلقيح الاصطناعي، وقد وُضعت عدَّة أطقم للقياس المناعي الإنزيمي المستمد من المجال النووي، وذلك باستخدام القياس المناعي الإشعاعي، وهذه الأطقم متاحة الآن للاستخدام التجاري، بما في ذلك في شكل أطقم محمولة لإجراء الاختبارات بجانب الأبقار مباشرة، كما يُستخدم التشعيع بالكوبالت-60 لتكوين اللوحات الهجينية الإشعاعية لاستعمالها في رسم خرائط لجينومات الماشية.
يُعد علف الحيوانات من المدخلات الرئيسية اللازمة لإقامة صناعة صحيَّة ومنتجة في مجال الثروة الحيوانية، وباستخدام التكنولوجيات النووية والتكنولوجيات ذات الصلة بالمجال النووي، يتم تحقيق الاستفادة المثلى من موارد العلف والمستوى الأمثل في ممارسات التغذية، على النحو اللازم للتصدي لحالات النقص الحالية في الإنتاج الغذائي، خاصة أن العلف من التكاليف التشغيلية الرئيسية في أيّ منشأة تجارية تعمل في مجال الثروة الحيوانية، وهناك عوامل أخرى تزيد من تعقيد هذه المشكلة، فالإمدادات المتوفرة من العلف، والتي كثيراً ما تكون شحيحة، تشهد تقلُّبات من حيث الكم والنوعية؛ والعديد من المراعي الطبيعية المؤثرة أيضاً الزيادة السريعة في عدد السكان، إلى جانب تدهور التربة والأراضي، لذلك تعمل التكنولوجيا النووية دائما على إجراء اختبارات مستمرة لموارد العلف المحتملة في المختبرات وفي تجارب ميدانية للوقوف على محتوياتها من المغذيات، وبناءً على نتائج تلك الاختبارات، يمكن للمزارعين أن يستعيضوا عن الأعلاف التقليدية جزئيًّا أو كليًّا بممارسات أكثر ابتكاراً في مجال تغذية الحيوانات باستخدام الموارد المحلية، وهو ما سيكون له أثر مباشر على الإنتاجية الحيوانية مع حماية البيئة والمحافظة على الموارد الطبيعية في الوقت نفسه.
ولمؤسسة روس أتوم، عملاق الصناعات النووية، دور كبير في تطوير استخدامات التكنولوجيا النووية وتحسين جودة الأغذية والزراعة، وقد ساهمت مع دولة بوليفيا في افتتاح مركز تشعيع متعدد الوظائف بالإضافة إلى بدء تركيب مفاعل بحثي، فريد من نوعه، من خلال شراكة مع الوكالة البوليفية للطاقة النووية (ABEN)، يقع على ارتفاع 4000 متر فوق مستوى سطح البحر، ويعتبر أعلى منشأة نووية في العالم، ويسمح مجمع المفاعل المجهز بالمعدات الروسية لبوليفيا بإجراء البحوث العلمية الأساسية والتطبيقية، وبالتالي توفير أدوات إضافية لتطوير مختلف القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك صناعة الليثيوم.
ويعد مركز أبحاث وتطوير التكنولوجيا النووية (CNTRD) في إل ألتو، بوليفيا، مشروعًا مبتكرًا يجمع بين أحدث التقنيات النووية لأغراض الرعاية الصحية والزراعة والعديد من القطاعات الأخرى، وقد تم بالفعل تنفيذ مرافق مرحلة البناء الأولى والثانية، ومجمع السيكلوترون-الصيدلاني الإشعاعي-قبل السريري (CRPC)، ومركز التشعيع متعدد الأغراض (MIC)، وفي الوقت نفسه، تتواصل أعمال البناء والتركيب للمرحلتين الثالثة والرابعة، ومن المقرر أن يكون الموعد المستهدف لإنجاز المشروع هو عام 2025.
وقد ذكر أليكسي ليخاتشوف، مدير عام مؤسسة روس أتوم، أن تركيب وعاء ضغط مفاعل بحثي في أعلى نيزك جبلي في العالم، على مسافة ٤ آلاف متر من سطح البحر، يعد رقما قياسيا جديدا لروس أتوم، في الصناعة النووية بأكملها، التي قدمت نموذجا فريدا وحلولا هندسية مبتكرة، معربا عن سعادته بالتشغيل التجاري لمركز التشعيع متعدد الأغراض في بوليفيا، باعتباره أمرا هاما للغاية ويشكل فرصة كبيرة لإدخال التقنيات النووية المتقدمة في الاقتصاد، وما لذلك من تأثيرات مباشرة على الحياة الاجتماعية للملايين حول العالم.
Short Url
أسهم «القارة الآسيوية» تتباين ومؤشر «بورصة تايوان» ينتعش
20 يناير 2025 09:51 ص
تقرير يستعرض أرقاما هامة عن منافذ التجزئة وسوق الضيافة في السعودية
20 يناير 2025 09:00 ص
إصدار رخص الوسيط العقاري بالسعودية، اعرف الشروط والإجراءات
20 يناير 2025 07:00 ص
-
الصحة : تقديم أكثر من 9 مليون خدمة طبية بالمنشأت الصحية
15 يناير 2025 02:41 م
-
قطار كل 4 دقائق ونصف.. المترو يستعد لاستقبال جمهور مباراة الأهلى والجونة
15 يناير 2025 02:16 م
-
وضع بصمته فى التنمية.. جمال عبد الناصر كان يؤمن بتحول مصر لدولة صناعية
15 يناير 2025 01:37 م
-
صون وحماية الأمن المائي، جلسة مباحثات بين وزير الخارجية ونظيره السوداني
15 يناير 2025 12:46 م
-
انخفاض أسعار الذهب في السعودية اليوم الأربعاء 15-1-2025، اعرف سعر الجرام
15 يناير 2025 12:41 م
أكثر الكلمات انتشاراً