الإثنين، 28 أبريل 2025

04:51 م

"قناة السويس"، كنز مصر الاستراتيجي وبوابة العالم إلى المستقبل

الأحد، 27 أبريل 2025 09:00 م

قناة السويس

قناة السويس

كتب/ كريم قنديل

على مدار قرون، كانت فكرة ربط البحرين الأبيض والأحمر حلمًا بعيد المنال، لكن مع ضربة فأس واحدة في أرض برزخ السويس عام 1859م، بدأ العالم يكتب فصلًا جديدًا في تاريخه التجاري، كان عنوانه العريض، قناة السويس.

قناة السويس

 

قناة السويس، مشروع هندسي ضخم

ولم تكن قناة السويس مجرد مشروع هندسي ضخم، بل كانت مغامرة اقتصادية وسياسية بكل المقاييس، فمنذ إصدار فرمان الامتياز الأول عام 1854م، بتوقيع الخديوي سعيد باشا، دخلت مصر مغامرة محفوفة بالمخاطر لكنها مشحونة بالآمال. 

فقد نص الفرمان بوضوح على أن تمتد امتيازات شركة ديليسبس 99 عامًا فقط، تحصل خلالها الحكومة المصرية على 15% من صافي الأرباح، مع شرطٍ واضحٍ أن القناة تظل محايدة ومفتوحة أمام جميع السفن دون تمييز.

لكن المغامرة لم تكن رخيصة، حيث اضطرت مصر للاقتراض بفوائد باهظة لشراء أسهمها في الشركة، إذ بلغت مساهمتها نحو 3,560,000 جنيه، بما يوازي تقريبًا نصف رأس المال، وهذا القرار الاقتصادي الجريء، رغم كلفته الباهظة، حمل بين طياته الرهان الأكبر، والسيطرة على الممر البحري الأهم في العالم.

ممر قناة السويس

 

الممر الملاحي ممرٌ لا مثيل له

واختصرت قناة السويس، المسافة بين أوروبا والمحيط الهندي، بما يعادل آلاف الأميال البحرية، حيث لم يعد على السفن أن تطوف حول رأس الرجاء الصالح، بل صار بإمكانها أن تعبر في أيام قليلة هذا الشريان الحيوي، والذي يشطر أسيا عن إفريقيا، ومعها تدفقت البضائع والأموال والأرباح.

واليوم، تعد قناة السويس أكثر الممرات البحرية كثافة في العالم من حيث الاستخدام، حيث تمر بها نسبة ضخمة من التجارة العالمية، وبدلًا من أن تكون مجرد مشروع محلي، أصبحت قناة السويس مصدرًا رئيسيًا للدخل القومي المصري عبر رسوم المرور، في ظل تسارع النمو العالمي وزيادة حركة التجارة الدولية.

وبلغة الأرقام، نحن نتحدث عن عوائد سنوية بمليارات الدولارات تدخل خزينة مصر، تمثل أحيانًا نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وفقًا لبيانات السنوات الأخيرة.

عبور أول سفينة 

 

جغرافيَّا اقتصادية دقيقة

ولا يقتصر تميز قناة السويس على موقعها الجغرافي فقط، بل أيضًا على بنيتها الجيولوجية الدقيقة، حيث تتكون التربة في بورسعيد من الطين الرسوبي الناتج عن نهر النيل، وتمتد حتى القنطرة، ثم تتحول إلى رمال ناعمة وخشنة في المنطقة الوسطى.

وأخيرًا إلى صخور رملية وجيرية كلما اتجهنا جنوبًا نحو السويس، وهذه التنوعات فرضت تحديات هندسية جسيمة، تطلبت تكسية الضفاف بالحجارة والستائر الحديدية؛ لحمايتها من الانهيار بفعل أمواج السفن العابرة.

وحتى التصميم الانحداري لجوانب القناة، خضع لدقة متناهية، بنسبة ميلان 4:1 في الشمال، و3:1 في الجنوب، مراعاة لطبيعة التربة، وضمانًا لاستقرار المجرى الملاحي.

ولأن قناة السويس هي شريان دائم النبض، كان لا بد من شبكة لوجستية متكاملة، 15 محطة إرشاد على الضفة الغربية، مكاتب حركة في بورسعيد والإسماعيلية والسويس، منظومة اتصالات حديثة قائمة على الألياف الضوئية والرادار، بل وتم تطوير أنظمة اتصال عبر الأقمار الصناعية، لضمان المراقبة اللحظية لكل سفينة.

حفل افتتاح قناة السويس

 

لحظة الولادة، من الحلم إلى الحقيقة

وفي الـ17 من نوفمبر 1869م، افتتح الخديوي إسماعيل القناة في حفل أسطوري حضره قادة أوروبا وعظماء عصرهم، عبرت السفينة إيغيل أولًا، تبعتها 77 سفينة أخرى، وسط احتفالات أنفق عليها الخديوي، ما يعادل مليون ونصف المليون جنيه، وهو رقم مهول في ذلك الزمن.

وكان افتتاح قناة السويس، بمثابة إعلان رسمي لميلاد مصر الحديثة، مصر التي تريد أن تضع نفسها في قلب الاقتصاد العالمي، مصر التي تبني بمجهودها شريانًا للخير، ومعبرًا للثروات.

 

أثر اقتصادي ممتد حتى اليوم

واليوم، تواصل قناة السويس لعب دور استراتيجي محوري في الاقتصاد المصري والعالمي، ففي السنوات الأخيرة، ومع التطورات الجيوسياسية والاضطرابات بسلاسل الإمداد، ازدادت أهمية القناة كطريق آمن وقصير بين الشرق والغرب، كما قامت مصر بتوسيع القناة في مشروعٍ ضخمٍ عام 2015م، لزيادة طاقتها الاستيعابية وتسريع حركة السفن.

واقتصاديًا، كل سفينة تمر تساهم في ضخ سيولة نقدية لخزينة الدولة، كما تمثل القناة إحدى ركائز الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر، ومع الاتجاه العالمي نحو تنويع طرق التجارة، تبقى قناة السويس رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن الاستغناء عنه.

قناة السويس

 

قناة السويس أكثر من مجرد مجرى مائي

إن قناة السويس، ليست مجرد ممر صناعي يصل بين بحرين، إنها قصة نضال اقتصادي، قصة استثمار محفوف بالمخاطر آتى أكله، قصة تصميم أمة على أن تكون رقمًا صعبًا في معادلة التجارة العالمية.

ومنذ فرمان الامتياز الأول وحتى اليوم، تظل قناة السويس نبضًا اقتصاديًا، وجسرًا بين الشعوب، وشاهدًا على أن الرهانات الكبيرة حين تقترن بالإرادة والإدارة الحكيمة، تصنع التاريخ.

Short Url

search