الدولار المريض يربك العالم، البنوك المركزية نحو دواء لأزمة الثقة
الأربعاء، 23 أبريل 2025 08:34 م

انهيار الدولار
تحليل/ كريم قنديل
في عالم باتت فيه القرارات النقدية تتقاطع مع الجغرافيا السياسية أكثر من أي وقت مضى، يبدو أن الدولار الأميركي، الذي لطالما شكل ركيزة النظام المالي العالمي، يمرّ بفصل جديد من التحديات.
فالعملة الخضراء، التي كانت حتى وقت قريب تُعتبر ملاذً آمنًا، تشهد تراجعًا يُربك موازين البنوك المركزية في أنحاء العالم، ويضع صانعي السياسات النقدية أمام اختبار غير مسبوق.

الدولار الضعيف، ارتياح في الظاهر وقلق في العمق
تراجع الدولار بنسبة تتجاوز 9 بالمئة منذ بداية عام 2025م، بحسب مؤشر الدولار، ليس مجرد رقم يُضاف إلى شريط الأخبار، بل هو تحوّل حقيقي في موازين القوة الاقتصادية، فبالنسبة للبلدان المستوردة، يُشكّل هذا التراجع فرصة لتخفيف عبء الواردات المقومة بالدولار.
لكن خلف هذا المكسب المرحلي، تكمُن إشكالية أعمق، كيف تُحافظ البنوك المركزية، خصوصًا في الاقتصادات الناشئة، على استقرارها النقدي في ظل عملة مرجعية تهتز تحت أقدامها؟
القلق في الأوساط المالية ليس سرًا، وفقًا لاستطلاع بنك أوف أميركا، حيث إن 61% من مديري الصناديق العالمية، يتوقعون استمرار تراجع الدولار خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة، وهي نسبة لم تُسجّل منذ عقدين، ما يعكس أزمة ثقة غير مسبوقة بالعملة الأمريكية.

سياسات ترامب الضبابية تهزّ العرش النقدي
وراء هذا التراجع المتسارع، تكمن حالة من الضبابية السياسية في واشنطن، فالإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، تتبنى نهجًا عدوانيًا في التجارة، وتدخلًا مباشرًا في السياسة النقدية.
كما أن تهديد ترامب الصريح بإقالة جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، ترك أثرًا نفسيًا عميقًا لدى المستثمرين، حيث إنها المرة الأولى منذ عقود التي تُصبح فيها استقلالية الفيدرالي موضوعًا للنقاش الشعبي، وهدفًا لتصريحات سياسية حادة.
وهذه الضبابية دفعت رؤوس الأموال إلى الهروب من الدولار، مفضّلة الملاذات الآمنة مثل الين الياباني والفرنك السويسري، وحتى اليورو، وترافق ذلك مع ارتفاع ملموس في أسعار الذهب، والذي أثبت مجددًا أنه الملاذ الأبدي في وجه العواصف النقدية.
معضلة البنوك المركزية، خفض الفائدة أم حماية العملة؟
البنوك المركزية وجدت نفسها في مفترق طرق، فمن جهة يُتيح ضعف الدولار فرصة لخفض أسعار الفائدة، ما قد يعزز النمو في اقتصادات تعاني من التباطؤ، ومن جهة أخرى، فإن خفض الفائدة قد يُؤدي إلى هروب رؤوس الأموال، وارتفاع التضخم، وتفاقم أزمة الديون المقومة بالدولار.
إن تراجع الدولار بنسبة 10 إلى 20% قد يكون تنفسًا مرحليًا لمعظم البنوك المركزية، خصوصًا تلك التي تربط عملاتها بالدولار، لكن في المقابل، إن قوة العملة المحلية الناجمة عن ضعف الدولار، تُضرّ بصادرات الدول، خصوصًا في أسيا، في ظل التعريفات الأميركية المتجددة.

أسيا والأسواق الناشئة، السير على الحبل المشدود
الأسواق الناشئة تعيش مأزقًا مضاعفًا، فهي من جهة تُرحّب بتراجع الدولار لما يُوفّره من تخفيف لأعباء الديون الخارجية، لكنها من جهة أخرى تخشى التداعيات العكسية، مثل هروب رأس المال وزيادة التضخم المحلي.
إن أي خطوة نحو خفض قيمة العملة المحلية، قد تُشكّل مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتفتح الباب أمام اتهامات من واشنطن بشنّ حرب عملات، والبنوك المركزية ليست بعيدة عن هذا السيناريو، فقد تتردد في خفض أسعار الفائدة، خوفًا من التأثير على عبء ديون الشركات والأسر المقترضة بالدولار، وأبسط مثال إندونيسيا التي تبدو متحفظة، مقابل كوريا والهند اللتين تملكان مجالًا أوسع للمناورة.

الدولار والبدائل، عالم يبحث عن توازن جديد
ما يحدث اليوم، ليس فقط أزمة ثقة بالدولار، بل بداية تحوّل استراتيجي في توجهات البنوك المركزية، إن العديد من البنوك بدأت بالفعل منذ سنوات في تقليص الاعتماد على العملة الأميركية، من خلال تنويع الاحتياطيات نحو الذهب، واليورو، واليوان الصيني، وحتى العملات الرقمية.
وهذا التحوّل انعكس في انخفاض حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية من 65%، إلى 58% خلال سنوات قليلة فقط، وهو رقم يحمل دلالات سياسية واقتصادية ضخمة.
في المقابل، تتقدم الصين وروسيا بمشروعات بديلة، مثل اليوان الرقمي ونظم المدفوعات البديلة، كما تسعى تكتلات مثل البريكس، إلى إبرام اتفاقات تجارية بالعملات المحلية، إنها محاولات متسارعة لكسر هيمنة الدولار، وقد تكون مقدّمة لعالم متعدد العملات.

التحدي الأكبر، الركود التضخمي
كل هذا يحدث في وقت تلوح فيه بوادر الركود التضخمي، وهو السيناريو الأكثر إرباكًا لأي بنك مركزي، حيث إن ارتفاع الأسعار مع تباطؤ النمو، يشكلان لعنة مزدوجة أجبرت البنوك على السير على حافة السكين، فهي لا تستطيع رفع الفائدة لكبح التضخم دون خنق النمو، ولا تستطيع خفضها دون تأجيج الأسعار.
والبنك المركزي الأوروبي، خفّض الفائدة بالفعل بمقدار 25 نقطة أساس، مستفيدًا من تراجع التضخم، لكن الحذر لا يزال سيد الموقف، خاصة وأن ردود الفعل تجاه السياسات الأميركية قد تُفاقم الضغوط، في حال توسعت الحرب التجارية، أو قررت واشنطن الرد على خفض العملات بالتعريفات.
عالم بلا بوصلة نقدية؟
ويبدو أن العالم يدخل عصرًا جديدًا، يتجاوز فيه الدولار دور السيد الأوحد للنظام المالي العالمي، لكنه عصر لم تتضح معالمه بعد، ولا تزال البنوك المركزية في حالة تأهب قصوى، تبحث عن التوازن بين حماية اقتصاداتها، واحتواء للعواصف القادمة من واشنطن.
يبقى السؤال: هل نعيش بداية النهاية للدولار كعملة مهيمنة؟ أم أنها مجرد عثرة تكتيكية في مسار طويل من القوة؟ الأيام وحدها ستُجيب، لكنَّ المؤكد أن العالم لم يعد كما كان.
Short Url
وداعًا للسيارات، أول دولة تتخذ القرار الأكثر جرأة في العالم (تفاصيل)
23 أبريل 2025 06:29 م
%6.5 نمو سنوي في الخدمات اللوجستية بالموانىء بحلول 2030
22 أبريل 2025 05:33 م


أكثر الكلمات انتشاراً