من الإيجابية إلى الاستقرار، تصنيف مصر الإئتماني بين التحديات والفرص
السبت، 12 أبريل 2025 01:19 م

وكالة "إس آند بي غلوبال ريتنغز"
تحليل/كريم قنديل
في ظل هيمنة النظام الاقتصادي الرأسمالي، تكتسب الديون وآليات الإقراض والاقتراض دورًا محوريًا، إذ تُعد الوسيلة الأساسية لتمويل مشاريع الشركات والدول، وتشكل أساسًا للعديد من القرارات والاستراتيجيات الاقتصادية، ومن هذا المنطلق، برزت الحاجة إلى تنظيم سوق الديون، من خلال تقييم قدرة المدين على الوفاء بالتزاماته وسداد ديونه بانتظام، بما يضمن استقرار هذا السوق ويحمي حقوق الدائنين.

وفي هذا السياق، تلعب وكالات التصنيف الائتماني دورًا بالغ الأهمية، حيث تصدر تقارير دورية عن الوضع المالي للبنوك والشركات الكبرى، غير أن تقاريرها المتعلقة بالدول تُعد الأهم، لما لها من تأثير مباشر على تكلفة اقتراض تلك الدول، سواء بخفضها في حال كان التصنيف إيجابيًا، أو رفعها إذا اتسم بالسلبية.
التصنيف الائتماني.. مؤشر الثقة في الدول ومفتاح تكلفة الاقتراض
كلما كان التصنيف الائتماني للدولة مرتفعًا، دل ذلك على قوتها في الوفاء بالتزاماتها المالية، مما يمنحها سهولة في الحصول على القروض بتكلفة منخفضة، وعلى النقيض فإن تراجع التصنيف يعكس ضعف الجدارة الائتمانية، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض، بل وقد يدفع بعض الدائنين للعزوف عن إقراضها.
وكالات التصنيف الائتماني
تلعب وكالات التصنيف الائتماني دورًا بارزًا في تقييم الجدارة الائتمانية للدول والمؤسسات، وذلك من خلال ثلاث وكالات أميركية كبرى هي: موديز، وستاندرد آند بورز، وفيتش، هذه الوكالات تُعد المرجع الأساسي عالميًا في هذا المجال، خاصة بعد أن اعتمدتها هيئة الأوراق المالية الأميركية عام 1975 كمؤسسات موثوقة.
وتسيطر هذه الجهات على حوالي 95% من سوق التصنيفات، فيما تتصدر موديز وستاندرد آند بورز الحصة الأكبر، بينما تأتي فيتش في المرتبة الثالثة، ورغم محاولات دول كالصين كسر هذا الاحتكار بإنشاء وكالات محلية مثل “دادونغ” عام 1994، إلا أنها لم تحقق نفس مستوى الاعتراف والانتشار.
أما بخصوص تصنيفات الجدارة الائتمانية، فتتدرج من أعلى مستوى "AAA" الذي يدل على قدرة عالية جدًا على سداد الالتزامات المالية، إلى مستويات أدنى تعكس تراجع الثقة، مثل "CCC" التي تعني جدارة ائتمانية عالية المخاطر، وصولًا إلى "DDD" التي تشير إلى حالة تعثر، وتُستخدم هذه التصنيفات كمؤشر رئيسي للمستثمرين والدائنين لتحديد مدى أمان الاستثمار أو الإقراض، كما تؤثر بشكل مباشر على تكلفة التمويل، حيث ترتفع مع انخفاض التصنيف، وتنخفض مع ارتفاعه.

حيادية وكالات التصنيف الائتماني، تدخلات القوى الكبرى
رغم أن وكالات التصنيف الائتماني تُفترض أن تكون مؤسسات فنية محايدة، إلا أن الممارسة العملية أظهرت أن بعض تقاريرها قد تأثرت بالأبعاد السياسية، خاصة حين يتعلق الأمر بالقوى الكبرى، ففي عام 2010، خفضت وكالة "ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أثار غضب واشنطن، حيث طالبت بسرعة سحب التقرير.
وبالفعل، تم تعديل التصنيف وإعادته إلى الدرجة العالية "AAA" بعد 24 ساعة فقط، وتكررت نفس الظاهرة في أوروبا، حيث تم تخفيض تصنيفات نحو 9 دول بعد الأزمة المالية الأوروبية، مما دفع دولًا مثل ألمانيا للتفكير في إنشاء وكالة تصنيف خاصة بها.
وفي عام 2018، عادت وكالات التصنيف لتثير الجدل مع تركيا، حيث تم خفض تصنيفها رغم تحسن أدائها الاقتصادي، وهو ما ربطه كثيرون بتوتر العلاقات السياسية مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هذه الأمثلة تثير تساؤلات حول حيادية وكالات التصنيف، وتفتح المجال للحديث عن دور السياسة في التأثير على قراراتها.
تراجع النظرة المستقبلية لمصر
في خطوة لفتت الأنظار، خفضت وكالة "إس آند بي غلوبال ريتنغز" نظرتها المستقبلية لتصنيف مصر الائتماني من إيجابية إلى مستقرة، وتثبيت تصنيفها الائتماني عند (B-/B)، وهو ما يعكس حالة من الحذر تجاه استقرار الاقتصاد المصري في ظل التحديات العالمية.
عزت الوكالة هذا التغيير إلى الضغط المستمر على المالية العامة للبلاد، مشيرة إلى متطلبات التمويل المرتفعة داخليًا وخارجيًا، ما يجعل مصر عرضة للتقلبات في الأسواق المالية العالمية.

ضغوط مالية داخلية وخارجية
أحد أبرز الأسباب التي دفعت "إس آند بي" إلى تعديل النظرة المستقبلية هو الأعباء الثقيلة التي تتحملها الحكومة المصرية بسبب تكاليف خدمة الدين، تتحمل مصر أحد أعلى مستويات الفوائد على ديونها بين الدول التي تغطيها الوكالة، ما يضعها في موقف حساس خاصة في ظل التقلبات في الأسواق العالمية.
ومن أبرز العوامل التي تؤثر على هذا الوضع هو رفع أسعار الفائدة في مصر إلى مستويات قياسية، بالإضافة إلى تحرير سعر الصرف، وهو ما أدى إلى زيادة تكلفة الديون المحلية نتيجة لارتفاع العوائد على السندات.
في الوقت نفسه، أظهرت الوكالة قلقًا من تأثير هذه السياسة على التدفقات الأجنبية، ارتفاع تكاليف الدين قد يدفع المستثمرين الأجانب إلى سحب استثماراتهم من سوق السندات المصرية، ما يزيد من الضغوط في أسواق الدين المحلية ويزيد من حدة الأعباء المالية.
تحديات الظروف الاقتصادية العالمية
تلعب العوامل الخارجية دورًا كبيرًا في الضغط على الاقتصاد المصري، من بين أبرز هذه العوامل، نجد التقلبات في أسواق التمويل العالمية، والتي تزيد من صعوبة الحفاظ على الاستقرار المالي في وقت يعاني فيه العالم من تبعات الأزمات الاقتصادية المتتالية.
كما أن احتمالات تباطؤ النمو العالمي تشكل تهديدًا على قدرة مصر على تحقيق أهدافها الاقتصادية والمالية في المدى القصير.
أضافت الوكالة أن احتمال انخفاض النمو العالمي قد يحد من قدرة مصر على المضي قدمًا في تطبيق الإصلاحات المالية والاقتصادية التي التزمت بها، في وقت تحتاج فيه إلى تدفقات مالية مستدامة لدعم استقرار اقتصادها.

وجهة نظر “فيتش” و"موديز"
في المقابل، أظهرت وكالة "فيتش" موقفًا أكثر تفاؤلًا، حيث حافظت على تصنيف مصر الائتماني عند "B" بنظرة مستقبلية مستقرة، وأوضحت أن نقاط الضعف الأساسية، مثل الارتفاع الكبير في فوائد الدين واحتياجات التمويل الخارجية، تتوازن مع عوامل قوة تتمثل في حجم الاقتصاد المصري وإمكانات النمو المستقبلية.
من جانبها، أبقت وكالة "موديز" تصنيف مصر الائتماني عند "Caa1" بنظرة مستقبلية إيجابية، وهو ما يعكس مرونة الاقتصاد المصري في مواجهة التحديات رغم الأوضاع الصعبة.
تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية
على الصعيد التجاري، لم تغفل "إس آند بي" عن ذكر تأثير الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على مصر، رغم أن هذه الرسوم تمثل نسبة ضئيلة مقارنةً بإجمالي صادرات مصر إلى الولايات المتحدة، فإن تأثيرها قد يمتد إلى القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على التصدير مثل المنسوجات والحديد والصلب، ما يضع مزيدًا من الضغط على التجارة الخارجية في وقت تعاني فيه مصر من ضغوط على مستوى الطلب العالمي.
من أبرز تلك التأثيرات المتوقعة:
زيادة تكاليف التمويل
تصنيف "إس آند بي" يعكس القلق من الأعباء المالية التي تتحملها الحكومة المصرية، خاصة في ما يتعلق بالفوائد على الديون، مع تصنيف أقل قد يصبح من الأصعب على مصر الحصول على تمويل خارجي بشروط ميسرة.
هذا يعني أن الحكومة قد تواجه تكاليف أعلى في المستقبل عند اقتراض الأموال من الأسواق الدولية أو المحلية، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة عبء خدمة الديون.

زيادة التقلبات في أسواق السندات
أشارت وكالة "إس آند بي" إلى أن التصنيف المستقر يعكس القلق بشأن تأثير التقلبات في أسواق التمويل العالمية، هذا يعني أن المستثمرين الأجانب قد يبتعدون عن سوق السندات المصرية نتيجة المخاطر المتزايدة، ما قد يؤدي إلى تدفقات خارجة من الاستثمارات.
هذا بدوره قد يزيد من الضغوط على الأسواق المالية المصرية، بما في ذلك ارتفاع أسعار الفائدة المحلية وتراجع قيمة العملة.
الضغط على العملة المحلية
نظراً للضغوط التي قد تتعرض لها الأسواق المالية والمخاوف بشأن قدرة الحكومة على إدارة ديونها، قد تتأثر العملة المحلية (الجنيه المصري) سلبًا، تدفق الأموال الساخنة من الخارج قد يؤدي إلى انخفاض قيمة الجنيه، مما قد يفاقم من التضخم المحلي.
تعزيز الحاجة للإصلاحات الاقتصادية
مع الحفاظ على النظرة المستقبلية المستقرة، تؤكد الوكالة على أن مصر تلتزم بالإصلاحات المالية والاقتصادية، لكن التوقعات تشير إلى أن هذه الإصلاحات قد تتم بوتيرة بطيئة نظراً للضغوط العالمية الحالية.
وفي ظل هذا، ستظل الحاجة إلى الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد المصري ملحة، مثل تعزيز النظام الضريبي وزيادة الكفاءة الاقتصادية.
تأثير التصنيف على الثقة الأجنبية
خفض التصنيف قد يؤثر على ثقة المستثمرين الأجانب في السوق المصري، قد تكون الشركات والمؤسسات المالية أكثر ترددًا في اتخاذ قرارات استثمارية كبيرة في مصر، مما قد ينعكس على تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

الواقع والتحديات
خفض وكالة "إس آند بي غلوبال ريتنغز" لتصنيف مصر الائتماني من إيجابية إلى مستقرة يحمل عدة تأثيرات على الاقتصاد المصري، خاصة فيما يتعلق بالثقة الدولية في الوضع المالي والاقتصادي لمصر.
يساهم التصنيف الائتماني في تحديد مدى قدرة مصر على جذب الاستثمارات الخارجية والاقتراض بأسعار منخفضة، وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها، فإن الحكومة المصرية ستحتاج إلى الاستمرار في تنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية لضمان استقرار الوضع الاقتصادي في المستقبل.
يفرض الواقع على مصر تحديات كبيرة تتعلق بموازنة إيراداتها مع مصروفاتها المرتفعة بسبب خدمة الدين، فبينما تسعى الحكومة لتعزيز الإصلاحات المالية، فإن الضغوط الداخلية والخارجية قد تجعل من الصعب تحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود في الوقت القريب.
تظل مصر أمام تحديات كبيرة، ولكن رغم ذلك، تمتلك الاقتصاد المصري إمكانيات لا يُستهان بها، مثل حجم السوق المحلي وإمكانات النمو، والتي قد تشكل دافعًا للنجاح في المستقبل إذا تم استثمارها بشكل صحيح.
Short Url
تريليوني طن من المعادن النادرة في أعماق البحار، هل بدأ سباق الذهب الجديد؟
14 أبريل 2025 12:51 م
بيئة الاستثمار في مصر، انطلاقة واعدة ولا سباق مؤجل
13 أبريل 2025 03:28 م
معلومة تهمك.. الفرق بين الأسهم والسندات وإزاي تستثمر فيهم؟
20 يناير 2025 12:30 ص


أكثر الكلمات انتشاراً