الإثنين، 14 أبريل 2025

08:06 ص

الجنوب العالمي ينهض، اقتصاديات المهمشين تُعيد رسم ملامح النظام الدولي

الخميس، 10 أبريل 2025 10:30 م

ترامب

ترامب

في العقود الماضية، اعتادت الدول الكبرى التعامل مع الجنوب العالمي بوصفه تكتلاً خاملاً، غارقاً في الأزمات، ويدور في فلك القوى الكبرى، لكن مع دخول القرن الحادي والعشرين، تغيّرت المعادلة: تحوّل الجنوب من تابع اقتصادي إلى فاعل سياسي، ومن عالم ثالث إلى مركز ثقل بديل يعيد خلط الأوراق على طاولة النظام الدولي.

النظام العالمي

اليوم، لم تعد تسمية العالم النامي أو العالم المتخلّف قادرة على وصف الحالة الديناميكية لدول مثل الهند، إندونيسيا، البرازيل، وجنوب أفريقيا، هذه الدول التي كانت في الأمس القريب تتلقى الإملاءات من المؤسسات المالية الغربية، باتت تملك القرار في ملفات مصيرية، من التجارة الدولية، إلى الأمن الغذائي، وحتى تغير المناخ.

من التبعية إلى التمكين.. الجغرافيا السياسية تتحوّل إلى اقتصاد نفوذ

تاريخيًا، شكّلت دول الجنوب خصوصًا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ساحة للتجاذبات بين القوى الكبرى، وهدفًا للتدخلات الاقتصادية والهيمنة المالية، لكن مع صعود الصين كقوة اقتصادية من خارج منظومة الغرب التقليدي، بدأ الجنوب يجد لنفسه موطئ قدم جديدًا. 

فالصين، التي تمثل هي الأخرى جزءًا من هذا الجنوب، لم تكتفِ بمنافسة الغرب، بل فتحت أمام دول الجنوب شرايين تمويل بديلة، وشراكات لا تشترط الانصياع الأيديولوجي أو السياسي.

كما لعبت مبادرات مثل طريق الحرير وبريكس دورًا في كسر حصرية النظام المالي الدولي القائم على الدولار والمؤسسات الغربية، ومع مشاركة دول الجنوب بفعالية في هذه التكتلات، بدأت تظهر ملامح نظام عالمي يتجه تدريجياً نحو التعددية، لا المركزية الغربية.

الحرب في أوكرانيا

الحرب في أوكرانيا.. نقطة التحوّل

شكلت الحرب الروسية الأوكرانية لحظة فارقة في كشف واقع الجنوب العالمي الجديد، امتنعت أغلب دول الجنوب عن الانحياز التلقائي للغرب، ورفضت السير في ركب العقوبات، ما أثار امتعاضًا واضحًا في عواصم القرار الغربية، لكن هذه الخطوة لم تكن موقفًا سياسيًا فقط، بل كانت إعلانًا صريحًا بأن هذه الدول لم تعد ترى نفسها مجرد أتباع، بل شركاء من موقع القوة في رسم مستقبل العالم.

هذا التمايز في المواقف كشف هشاشة الادعاءات الغربية حول نظام دولي قائم على القواعد، وأكد أن كثيرًا من دول الجنوب لم تعد مستعدة لدفع ثمن صراعات ليست طرفًا فيها، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا.

الرسوم الجمركية.. شرارة الوعي الاقتصادي الجديد

في قلب هذا التحول، لعبت الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة دورًا أشبه بالشرارة التي أيقظت الجنوب العالمي من سباته الاقتصادي، فبدلاً من أن تؤدي إلى خضوع اقتصادي، كما كان مأمولاً في واشنطن، دفعت هذه السياسات الحمائية الصارمة الدول المتأثرة مثل كمبوديا، بنغلاديش، وسريلانكا إلى مراجعة اعتمادها الكبير على السوق الأمريكية، والبحث عن بدائل جديدة تُجنّبها التبعية الاقتصادية المهينة. 

فالولايات المتحدة، من خلال استخدام الرسوم كأداة عقابية، سرّعت دون قصد عملية إعادة التمحور الجيواقتصادي التي تشهدها دول الجنوب.

بل إن هذه الرسوم لم تُسهم فقط في التأثير على تدفق الصادرات، بل عمّقت أيضًا شعور تلك الدول بالهشاشة الاقتصادية الناتجة عن انخراطها في منظومة تجارية لا تتحكم في شروطها. 

وبهذا المعنى، ساعدت هذه السياسات على ترسيخ قناعة متزايدة بأن بناء شراكات بديلة سواء عبر التكتلات الإقليمية أو التعاون مع قوى مثل الصين وروسيا بات ضرورة استراتيجية لا مجرد خيار اقتصادي.

دول العالم في مواجهة الديون

من شعارات التنمية إلى معادلات التأثير

اللافت أن المصطلحات التي كانت تُستخدم لتوصيف الجنوب مثل الدول النامية أو البلدان الأقل نموًا بدأت تفقد صلاحيتها، لا لأن الجنوب بات خالياً من الأزمات، بل لأن الكثير من دوله أصبحت تمتلك مفاتيح اللعبة الاقتصادية، وتفرض شروطها على الطاولة. 

الهند، على سبيل المثال، باتت ضمن أكبر خمس اقتصادات في العالم، وتدير علاقاتها الدولية من موقع تفاوضي متقدم، لا من موقع المتلقي.

بل إن دولاً أفريقية، طالما وُصفت بأنها عالة على النظام المالي العالمي، باتت ترفض التعامل مع المؤسسات الغربية بالشروط القديمة، وتطالب بإصلاحات جذرية في صندوق النقد والبنك الدولي، معتبرة أن قواعد اللعبة المالية يجب أن تُكتب من جديد، بمشاركة من يدفع ثمنها لا من يضعها فقط.

التحديات قائمة.. لكن الخطاب تغيّر

صحيح أن دول الجنوب ما زالت تواجه تحديات ضخمة: 

  • ديون متراكمة
  • فقر هيكلي
  • هشاشة مناخية
  • بنى تحتية ضعيفة

لكن الأهم من ذلك، هو أنها لم تعد تتعامل مع هذه التحديات من موقع الاستسلام، بل من موقع المطالبة بتغيير جذري في بنية النظام العالمي، ومن هنا جاءت الدعوات المتزايدة لإعادة تشكيل مجلس الأمن، وإصلاح المنظومة الاقتصادية الدولية، وتأسيس نظام تجاري أكثر عدلاً وشمولاً.

في عالم متعدد الأقطاب، لم يعد بالإمكان تجاهل صوت الجنوب، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا، إنهم اليوم أكثر تنظيمًا، أكثر وعيًا بمصالحهم، وأكثر استعدادًا للتحالف مع من يخاطبهم كشركاء لا كمستفيدين.

الحرب التجارية

الجنوب العالمي.. قوة صاعدة أم ثورة صامتة؟

في خضم هذا التحوّل، تبدو الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية مضطرة لإعادة النظر في نظرتها التقليدية للجنوب، فالتعامل بمنطق المساعدات المشروطة أو الإملاءات السياسية لم يعد مجديًا، الجنوب اليوم يتحدث لغة المصالح لا العواطف، ويرى نفسه جزءًا من الحل العالمي لا مجرد مستقبل للدعم.

إنه جنوب يفرض نفسه بهدوء، ويعيد رسم توازنات القوى في زمن تتراجع فيه القطبية الأحادية، قد لا يحمل هذا الجنوب دبابة أو صاروخًا، لكنه يملك ورقة الاقتصاد، وسلاح التأثير، وقوة الموقف، وهذا كافٍ لتغيير قواعد اللعبة.

Short Url

search