الجمعة، 31 يناير 2025

01:37 ص

أسسها

حازم الجندي

رئيس مجلس الإدارة

أكرم القصاص

إشراف عام

علا الشافعي

محمود العربي.. قصة رجل غيّر وجه الصناعة المصرية

الأربعاء، 29 يناير 2025 10:54 ص

محمود العربي

محمود العربي

كريم قنديل

من قلب قرية صغيرة تُدعى "أبورقبة"، بمركز أشمون بمحافظة المنوفية، وُلد محمود العربي عام 1932م، ليبدأ رحلته في الحياة بظروف لم تكن سهلة، في أسرة ريفية فقيرة تعمل بالزراعة دون امتلاكها لأي أرض، ومنذ نعومة أظافره، برزت ملامح شخصية استثنائية لطفل لم يتجاوز الثالثة عندما أُرسل إلى الكُتَّاب لتعلّم القرآن الكريم، حيث غرس فيه هذا التعليم المبكر، قيم الصدق والأمانة والتمييز بين الحلال والحرام، وهي القيم التي سترافقه طوال حياته.

محمود العربي

 

بائع ألعاب الأطفال: البدايات الأولى

وكانت أولى خطوات محمود العربي في عالم التجارة بسيطة للغاية، لكنها عكست شغفه المبكر بهذا المجال، ففي أيام العيد، كان يجمع بعض القروش البسيطة من عمله الصغير ويعطيها لأخيه غير الشقيق، ليشتري له ألعابًا نارية وبالونات من القاهرة، ثم يعود العربي بهذه الألعاب إلى قريته، ويفترش مصطبة منزلهم لبيعها لأقرانه، محققًا ربحًا متواضعًا يُنفقه في شراء المزيد من البضائع، ويعد هذا النموذج البسيط للعمل الدؤوب والإبداع التجاري، حجر الأساس لنجاحه المستقبلي.

ولم يكن هذا العمل البسيط مجرد تجارة، بل كان درسًا في مواجهة التحديات المبكرة، حيث تعلم كيف يمكن للمستثمر الصغير أن ينمو ويحقق نتائج كبيرة، والذي كان “الطفل محمود” ، حيث أدرك أن النجاح يتطلب الاجتهاد والمثابرة، حتى لو كانت البداية متواضعة.

 

الرحلة إلى القاهرة: أولى محطات الكفاح

لم تستمر طفولة محمود العربي طويلًا؛ فبسبب وفاة والده وظروف الأسرة القاسية، اضطُر للانتقال إلى القاهرة مع أخيه الأكبر، في البداية، حيث عمل بمصنع للعطور، لكنه لم يجد نفسه في بيئة العمل الروتينية تلك، لذا وبعد شهر واحد فقط، انتقل للعمل في محل بحي الحسين مقابل راتب قدره 120 قرشًا شهريًا، وعلى الرغم من صغر المبلغ، إلا أن هذا العمل أتاح له فرصة تعلم أصول البيع والشراء.

وكان وجوده في حي الحسين، بمثابة مدرسة تجارية حقيقية، بعدما بدأ باكتساب خبرة في التفاوض مع العملاء وفهم احتياجاتهم، حيث كان يستمع إلى القصص التي يرويها زملاؤه عن تجاربهم، ليتعلم منهم كيف يمكن للتاجر أن ينجح من خلال بناء علاقات طويلة الأمد مع الزبائن.

 

من بائع إلى تاجر

وفي العام 1949م، انتقل العربي للعمل في محل جملة، حيث تضاعف راتبه ليصل إلى 4 جنيهات شهريًا، وكانت هذه الخطوة، بمثابة نقطة تحول في حياته، إذ تعلّم من خلالها المزيد عن التجارة وإدارة الأعمال، واكتسب خبرة عملية غنية ساعدته على توفير تكاليف زواجه لاحقًا، كما استمر في العمل بهذا المجال، لمدة 15 عامًا، حيث ارتفع خلالها راتبه إلى 27 جنيه، وهو مبلغ كبير آنذاك.

ولم يكن العمل في محل الجملة مجرد مصدر دخل، بل كان مدرسة أخرى في حياته، حيث تعلم هناك كيفية إدارة المخزون، وكيفية تحليل السوق، وكيفية اختيار البضائع التي يحتاجها الزبائن، حيث بدأ يضع تصورًا لما يمكن أن يكون عليه مشروعه الخاص يومًا ما.

محمود العربي

 

التأسيس لأول مشروع

وبحلول عام 1963م، قرر محمود العربي أن يخطو خطوة جريئة نحو الاستقلال، رغم قلة رأس المال، باتفاقه مع زميل له على الدخول في شراكة مع رجل ثري يمتلك رأس مال قدره 5 آلاف جنيه، ليفتتحوا -بهذه الشراكة- أول محل في منطقة الموسكي بالقاهرة، وهو المحل الذي سيشهد انطلاقته الحقيقية في عالم التجارة.

لكن بعد ثلاثة أيام فقط من افتتاح المحل، مرض الشريك الثري واضطر للتخلي عن العمل لمدة عامين- خلال تلك الفترة- ليتحمل محمود العربي مسؤولية إدارة المحل بمفرده، والذي كان سببا رئيسيًا بعدها في نجاحه، حيث حقق أرباحًا غير متوقعة بفضل أمانته وإخلاصه في العمل،لتفوق إيراداته 10 محلات مجتمعة.

 

التوسع في التجارة

مع نجاح المحل الأول، بدأ العربي يفكر في التوسع، حيث كانت رؤيته واضحة وقتذاك، بعد تقديم منتجات ذات جودة عالية بأسعار تنافسية، مع التركيز على بناء علاقة ثقة مع العملاء، وهذه الاستراتيجية، جعلته واحدًا من أبرز التجار في منطقة الموسكي، ليصبح معروفًا بصدقه وحرصه على مصلحة زبائنه.

وكان هذا النجاح، بمثابة تأكيد على أهمية القيم التي تعلمها منذ الصغر، وهي الأمانة والاجتهاد. حيث لم يكن مجرد تاجر، بل أصبح مثالًا يُحتذى به في كيفية بناء سمعة تجارية قوية.

 

التحول إلى الأجهزة الكهربائية

ومع منتصف السبعينيات، جاءت سياسة الانفتاح الاقتصادي لتفتح أبوابًا جديدة أمام محمود العربي، والذي كان يعمل حينها في تجارة الأدوات المكتبية، لكن قرار الحكومة، بتوفير المستلزمات المدرسية مجانًا للأطفال، جعله يعيد التفكير في نشاطه التجاري، حيث قرر التوجه نحو تجارة الأجهزة الكهربائية، وهو قرار كان له أكبر الأثر في تشكيل إمبراطوريته.

وبدأ العربي باستيراد الأجهزة الكهربائية من الخارج، لكنه كان يدرك أن الاعتماد على الاستيراد فقط لن يحقق الاستدامة، لذلك، بدأ يفكر في كيفية تطوير الصناعة المحلية، ليكون شريكًا في بناء اقتصاد وطني قوي.

توشيبا اليابانية

 

التعاون مع اليابان: البداية العالمية

وفي عام 1975، سافر محمود العربي إلى اليابان للحصول على توكيل من شركة توشيبا العالمية، وخلال زيارته لمصانع الشركة، اقترح فكرة إنشاء مصنع في مصر لتصنيع الأجهزة الكهربائية محليًا، فلم تكن هذه الفكرة مجرد طموح، بل خطة مدروسة لتطوير الصناعة المحلية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد.

ووافقت الشركة اليابانية على مقترحه، وتم إنشاء أول مصنع لتوشيبا في مصر، بنسبة مكون محلي تجاوزت 40%، ثم ارتفعت تدريجيًا إلى 95%، حيث لم يكن هذا التعاون مجرد صفقة تجارية، بل كان بداية لشراكة استراتيجية ساهمت في نقل التكنولوجيا والخبرة اليابانية إلى مصر، كما أصبحت مصانع العربي نموذجًا يُحتذى به في كيفية دمج الجودة العالمية مع الإنتاج المحلي.

 

تأسيس مجموعة العربي

وفي العام 1978، أسس محمود العربي شركة "توشيبا العربي"، والتي أصبحت رائدة في صناعة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية في مصر والشرق الأوسط، فلم يكتفِ العربي بتجارة الأجهزة، بل وسع نشاطه ليشمل تصنيعها، معتمدًا على أحدث التقنيات اليابانية، ومعايير الجودة العالمية، كما توسعت شركته لتشمل توكيلات لعلامات تجارية كبرى مثل شارب، سوني، وسيكو.

كانت رؤية محمود العربي، تتجاوز تحقيق الأرباح، حيث كان يؤمن بأن النجاح الحقيقي، هو الذي يساهم في تحسين حياة الناس، لذلك، حرص على أن تكون شركته مصدرًا لتوفير فرص العمل لتدعم الاقتصاد الوطني.

توشيبا العربي

 

رجل الأعمال والإنسان

ولم يكن محمود العربي مجرد رجل أعمال ناجح، بل كان نموذجًا في التواضع والإنسانية، حيث رفض الوجاهة السياسية رغم إلحاح العديد من المسؤولين عليه للترشح لمناصب حكومية، ووافق على خوض انتخابات مجلس الشعب لمرة واحدة فقط، نزولًا عند رغبة محافظ القاهرة، لكنه قرر بعدها التفرغ لإدارة أعماله، مؤمنًا بأن السياسة لها رجالها والاقتصاد له رجاله.

وكان الحاج محمود العربي، يُعرف بأعماله الخيرية، والتي شملت بناء مستشفيات ومدارس وتوفير فرص عمل لأبناء قريته والمناطق المحيطة بها، كما أسس نظامًا للتكافل الاجتماعي داخل شركته، يضمن للعمال وأسرهم حياة كريمة.

كانت مبادراته الخيرية، تمتد إلى كل مكان يصل إليه تأثيره، سواءًا كان ذلك من خلال دعم المشروعات الصغيرة، أو تقديم المنح الدراسية للشباب الطموح، والذي كان دائمًا يسعى لإحداث فرق حقيقي في حياة الناس.

 

وسام الشمس المشرقة

وفي العام 2009، حصل محمود العربي على وسام الشمس المشرقة من الإمبراطور الياباني أكيهيتو، وهو أحد أرفع الأوسمة التي تُمنح للأجانب، ليأتي هذا التكريم، تقديرًا لدوره في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين مصر واليابان، ولجهوده في تطوير الصناعة المصرية.

وكان هذا الوسام، بمثابة تتويج لمسيرة طويلة من العمل الجاد والتفاني، لكنه لم يكن نهاية الرحلة، بل حافزًا لمواصلة تقديم المزيد.

مستشفى العربي

 

إرث من القيم والنجاح

توفي محمود العربي في التاسع من سبتمبر 2021، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من النجاح والكفاح، حيث بلغت مبيعات مجموعة العربي أكثر من 400 منتج يتم توزيعها في 22 دولة حول العالم، كما توفر المجموعة فرص عمل لآلاف المصريين من خلال أكثر من 2,800 مركز بيع و 180 مركز خدمة.

وتظل قصة محمود العربي، مثالًا حيًا على قوة الإرادة والعزيمة، من طفل صغير يبيع الألعاب للأطفال، إلى أحد أعمدة الصناعة المصرية، حيث أثبت أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن النجاح الحقيقي يأتي من العمل الجاد والإخلاص، لقد كان رجلًا تجسدت فيه قيم الرأسمالية الوطنية الرشيدة، كما ترك بصمة لا تُنسى في تاريخ الاقتصاد المصري.

إن إرث محمود العربي ليس مجرد أرقام أو مصانع، بل هو درس في كيفية تحقيق المستحيل، من خلال الإيمان بالنفس والعمل الدؤوب، وستظل قصته مصدر إلهام للأجيال القادمة، ودليلًا على أن العطاء والنجاح يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب.

Short Url

search