مصر وإندونيسيا، شراكة تجارية تتجاوز الأرقام وتُراهن على المستقبل
الأربعاء، 16 أبريل 2025 03:52 م

مصر وإندونيسيا
تحليل/ كريم قنديل
في مشهد يعكس تقاربًا سياسيًا متسارعًا، واستعدادًا اقتصاديًا لإعادة تشكيل الشراكات الإقليمية، جاءت زيارة الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو إلى القاهرة الثانية في أقل من أربعة أشهر لتؤكد أن العلاقات بين القاهرة وجاكرتا لم تعد تقف عند حدود الدبلوماسية التقليدية، بل باتت تتحرك بثبات نحو شراكة استراتيجية لها حضورها في الأسواق وسلاسل الإمداد والتدفقات الاستثمارية.

علاقات أقدم مما نعتقد.. التجارة بين مصر وإندونيسيا
رغم الاعتقاد السائد بأن العلاقات الاقتصادية بين مصر وجزر الهند الشرقية الهولندية المعروفة اليوم بإندونيسيا لم تبدأ إلا بعد استقلال الأخيرة عام 1949، تكشف وثائق وزارة الخارجية المصرية عن رواية مغايرة تمامًا، ومفاجئة في عمقها التاريخي.
فالواقع أن التبادل التجاري بين البلدين كان قائمًا قبل ولادة الدولة الإندونيسية الحديثة بسنوات طويلة، بل وازدهر في فترات بالغة الصعوبة مثل الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، حين كانت معظم طرق التجارة الدولية مقطوعة، وكانت الحروب تعيد رسم خرائط العالم.
الأدهى أن هذا الحراك الاقتصادي سبق حتى معاهدة الدفع التجارية التي وُقّعت بالأحرف الأولى بين القاهرة وجاكرتا في أواخر عام 1954، ودخلت حيز التنفيذ مطلع عام 1955، وهو ما يعني أن الاقتصاد سبق السياسة، والتجارة مهدت الطريق للدبلوماسية.
إنها شهادة حية على أن العلاقات المصرية الإندونيسية لم تكن يومًا عابرة، بل تأسست على أرضية من التبادل والمصالح المشتركة قبل أن يكتب التاريخ فصولها الحديثة.

1.7 مليار دولار.. التبادل التجاري يرتفع بثقة
تكشف أحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن بلوغ قيمة التبادل التجاري بين مصر وإندونيسيا 1.7 مليار دولار خلال عام 2024، مقارنة بـ1.6 مليار في العام السابق، وهو ارتفاع طفيف لكنه يحمل دلالات مهمة في توقيت حساس عالميًا، وسط اضطرابات في سلاسل التوريد الإقليمية وإعادة تموضع اقتصادات الدول النامية.
ورغم الفارق الكبير بين حجم الواردات والصادرات، إلا أن استمرار النمو في كلا الاتجاهين يعكس حالة استقرار وتوسّع تدريجي في العلاقات الاقتصادية، تهيئ الأرض لتعاون أعمق في القطاعات الإنتاجية والتحويلية.
ميزان تجاري يميل نحو جاكرتا.. ومجالات واعدة للتصحيح
بلغت قيمة الصادرات المصرية إلى إندونيسيا 151 مليون دولار فقط، مقابل واردات تخطّت 1.6 مليار دولار، ما يضع الميزان التجاري في خانة العجز لمصلحة إندونيسيا، إلا أن تحليل بنود التبادل يكشف أن هذا الخلل ليس هيكليًا، بل قابل للمعالجة عبر تحفيز التصنيع المحلي وتنويع الصادرات.
فالمنتجات المصرية المُصدَّرة تتركّز في سلع أولية مثل الملح والكبريت والخضروات والفواكه، وهي قطاعات يمكن تطويرها من خلال التصنيع الزراعي والمعدني، بينما تستورد مصر من إندونيسيا منتجات صناعية وزيوت وبهارات ومعدات كهربائية، ما يُبرز فرصًا لمصر في بناء شراكات صناعية أو تصنيع مشترك.

الزيوت والبهارات تُهيمن على المشهد
الزيوت النباتية والحيوانية تمثل أكبر بند استيرادي من إندونيسيا بقيمة 874 مليون دولار، تليها البن والشاي والتوابل بقيمة 140 مليون دولار، يليه الحديد ومصنوعاته بقيمة 123مليون دولار، وآلات وأجهزة كهربائية وآلية وأجزاؤها بقيمة 94مليون دولار، وسيارات وجرارات ودراجات وأجزاؤها بقيمة 54مليون دولار.
هذا التركز يمنح الجانب المصري فرصة لإعادة هيكلة وارداته عبر تنويع مصادر الاستيراد أو دعم بدائل محلية، خصوصًا مع توجه الحكومة المصرية نحو تعزيز الأمن الغذائي وخفض الاعتماد على الخارج.
استثمارات وتحوّلات مالية.. حضور خجول وطموح ممكن
فيما يخص الاستثمارات، تُظهر البيانات أن الاستثمارات المصرية في إندونيسيا بلغت 50 مليون دولار، مقابل 1.1 مليون فقط استثمارات إندونيسية في مصر، وهي أرقام متواضعة مقارنة بإمكانات السوقين.
لكن الزيارة الرئاسية والرسائل السياسية المصاحبة تفتح الباب أمام تعزيز هذه الاستثمارات، لا سيما في مجالات البنية التحتية والطاقة الجديدة والتصنيع الغذائي، حيث تتمتع إندونيسيا بخبرات وشركات كبرى يمكن جذبها للسوق المصرية.
أما التحويلات المالية، فرغم أنها لا تشكّل رقمًا كبيرًا، إلا أنها ترسخ وجودًا بشريًا ومجتمعيًا مشتركًا، بواقع 5.1 مليون دولار تحويلات من المصريين في إندونيسيا، و3.6 مليون من الإندونيسيين في مصر.
800 مصري في إندونيسيا.. وبوادر تعاون ثقافي وإنساني
يُقدّر عدد المصريين في إندونيسيا بـ800 شخص فقط حتى نهاية 2023، ما يعكس مساحة واسعة للتقارب الثقافي والأكاديمي، سواء عبر تبادل البعثات الطلابية أو التعاون في مجالات التعليم والسياحة، خاصة في ظل النمو السكاني الكبير في البلدين، حيث يبلغ عدد سكان مصر 107.5 مليون نسمة، مقابل 285 مليون في إندونيسيا، ما يجعل البلدين من أكبر الأسواق البشرية في العالم الإسلامي.
شراكة إسلامية بإمكانات آسيوية وإفريقية
أهمية العلاقات المصرية الإندونيسية لا تنبع فقط من أرقام التبادل التجاري، بل من التكامل الجغرافي والسياسي والسكاني بين أكبر دولتين في العالم العربي والآسيوي الإسلامي، حيث يمكن لهذه العلاقة أن تشكّل جسرًا لتعاون ثلاثي يشمل إفريقيا وآسيا، في قطاعات مثل الزراعة والصناعة والسياحة الحلال.
العلاقات المصرية الإندونيسية تتحرك اليوم بسرعة غير مسبوقة، من الزيارات السياسية إلى التفاهمات الاقتصادية، وإن كانت الأرقام لا تزال في طور التأسيس، فإن الإشارات واضحة: الطريق إلى شراكة أعمق قد بدأ، والفرص أمام الجانبين أوسع من أن تُقاس بالتبادل التجاري فقط.
فهل نشهد في السنوات المقبلة قفزة حقيقية في الاستثمارات والمشاريع المشتركة؟ الأمر مرهون بإرادة سياسية متواصلة، ومبادرات اقتصادية تخرج من طور البيانات إلى ميدان التنفيذ.
Short Url
الدولار ليس بخير، أزمة صامتة تهز الاقتصاد العالمي
17 أبريل 2025 05:44 م
من 14 إلى 50 جنيهًا، كيف تطور دعم التموين للمواطن المصري؟
17 أبريل 2025 04:20 م
136 مليار يورو حجم سوق الأغذية العضوية عالميًا، ومصر تقول كلمتها
17 أبريل 2025 01:38 م


أكثر الكلمات انتشاراً